إنه القحط ثانية
جاءت البشائر متأخّرة...اختمرت التربة وإرتوت... تسلّلت النشوة نحو شرايينها المصهودة ... اقتعدت الأنواء ردحا طويلا تلطم الشجيرات الواقفة... تكابد الخوف من ثنايا الحمم المنبعثة من أديم الأرض المتيبّسة اليابسة... اختلط ثراها الذاوي بكرم إلاهي واصل...يصل الكينونة المارقة.
كان العام كئيبا...باع والدي رأسه في غيوم المهاترة... ويستطلع في لجج المكيدة أشواكها الحادّة...ويدحض تخاريف الصبابة...وخرافاتها البالية ... وحبّه المعفّر في أوحاله...تعتقر المودّة وتعاقر خمرتها ... وتورق من فروع الأشجار غريب أسرابها ...
وتغاريد أطيارها
حمم و براكين تلتهب متنافرة... حمحمة جياد تتوثّب شاردة... كنت وأخي الأصغر نعزق الأرض الكأداء المالحة...نسقي جذوعها بماء البحيرة الآسنة...ماء كقيح الغسلين يضخّ متواترا...ثرى الأرض ينغرس كالرصاص المصهور يشقّ أراضيها... يفسد ترابها ..يكبر الحلم في أعنّتها...ويصادر البوح والقافية... مرّت سنون الضنك متلاحقة... تشدّ أبراجها... ولا تشذّ عن القاعدة...سنوات عجاف... تستمطر الخيبة والخسارة الجاثية ... تلافيفها تستوقد أوعارها...
باع جدّي الأراض الخصبة يستنقد دائنيه حقوقهم...واحتفظ لنفسه بشجيرات عجفاء... تقف خائبة مثيل شجر الزقّوم في القيعان المتوقّدة...مات وترك الخيبة داجية...استغاثت الجموع تطلب القطرة الجارية...شموس تصطرع لاهبة...ترسل أشعّتها قائظة...ريح السموم يستمطر عاتيا مطر من لهيب القائلة...شاخت أشجارها قبل شيخوختها...بدت هرمة ذاوية...تضربها العواصف العاتية في مقتل...وتستمرّ في طمر أثمارها.
إنه القحط ...يستحلّ البادية والتلال الراسية...الشياه تثغو جائعة...تلتهم كلأ كالرماد ..حصى في أطماره.
حتى ظننّا إنّ الساعة اقتربت ودنت أخبارها... تملّكنا الهزال... وبدت أيامنا ثاوية...نفقت الدواب في الوهاد وتيبّست أحجارها... شحّ الماء وتساكنت الأبالسة في مغاور الرهبة تهمس متآمرة.
فجأة دوّت السماء بهزيم ...شبيه الطامّة... رعود تدكّ الأرض بلا هوادة...دون مهادنة شقّ البرق بخيوطه القاطعة ...يخترق الأرض اليابسة..وعمّت في الجو دواوير من مطر هطول... تغسل القلوب الظمآنة الكابية...وترسل جداول من خرير ماء...يجري متهاديا...متماديا في زخّه غير مباليا...إزدانت الأرض برونق البهجة...انسابت المياه غزيرة تلثم الجذوع المتداعية...
إمتدّت الأكف خاشعة...تقايض الفرحة ...وتستورق المدى...وتستعجل الثمر في أغصانها...وتهادن إدبارها.
الكاتب
محمد سليماني.
6/10/2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق