نبض نخلة: في عِصمة الأحلام//الكاتب محمد داوود

الثلاثاء، 1 مارس 2022

في عِصمة الأحلام//الكاتب محمد داوود

 

في عِصمة الأحلام 


أشارت عقارب الساعة إلى الواحدة والنصف صباحاً ، حينما شرعت في الاستسلام للنوم بعدما أستنفذت عدد مرات الرحلات المجانية إلى الماضي ، وقبل أن يبدأ التفكير تحصيل رسوم إضافية من جسدها المُنهك ، حرصت كالعادة أن تظهر بكامل أناقتي قبل النوم ، وأخذت تنثر الرذاذ المُنبعث بغزارة من زجاجة عطرها لتعم الغرفة رائحة عطر يحبه زائر أحلامها ، ذلك الرجل الذي لا تُظهر أنوثتها إلا أمامه ، الذي كان يُلقبها بسيدة النساء ، لذا حرصت أن تظهر جذابة لامعة على عكس إنطفائها بعدما جردتها الحياة من صفتها السيادية وغدت إحداهن بعد رحيله ، لقد ترك الحياة منذ خمسة أعوام مضت وسلك طريقه بلا وداع إلى ما يليها ، رحل عن عالمها ولكنه لم يتخل عنها أبداً ، لم يُخفِ القدر أثره من الحياة ، يزور أحلامها ما بين الحين والآخر ليطمئن على أحوالها وأحوال التوأمين اللذين تركهم أجنة يسبحون داخل رحمها، أما عنها فظلت تمنح السعادة لأبنائها على الرغم من خوضها ملحمة حياتية قاسية ،ترسم على وجوههم الابتسامة بينما تفتقد إلى الغائب الذي لا عودة له من حيث ذهب ، يُقال أن حالة العقل تنعكس على الجسد لذلك لم يتسلل النوم إلى حدود عقلها ، فجلست على مكتب خشبي كان ذات يوم لزوجها ، و أمسكت بقلمه وأخذت أكتب له بحروف باكية ، خرجت رغماً عنها مهزوزة 

" إلى زوجي العزيز ...

إلى ولدي ، ووالدي ، وأبا أبنائي ...

كلما كتبت لك أجد الكلمات تخلع عنها ما ترتدي من ثياب مخملية خفيفة ، تتعرى أمامك لتظهر صادقة بلا كسرة أو ضمة أو أي تعبير بليغ ، ليتك اليوم هنا فأنت تعرف الإختلاف الذي يطرأ على قلبي في وجودك ، أدركت الآن سبب الحزن الغامض الذي لطالما شعرت به سابقاً ، أظنه كان مجرد بذور لأحزان قاسية ستغزو روحي عقب رحيلك ، أما عن المسافة الهائلة التي تفصل فيما بيننا ، أتمنى أن تتقلص بشكل سريع حتى يتسنى لي لقائك، فلم يعد لي طاقة في عيش الحياة من دونك ،لم أعد أنا تلك التي كنت تعرفها في السابق ، لقد ألتهم الشيب مقدمة رأسي ، وتناثرت الكثير من الشعيرات الرمادية علي بالجزء الباقي من شعري، لا أذكر أخر مرة داعب النوم جفوني ولم يكن لدي الرغبة في مقاومته ، دوماً أستعد للنوم وانتظرك تطل على أحلامي ،ولن أخفي عليك سراً لقد خذلتني الحياة ، فهي ليست عادلة ولا تجبر المُنكسرين أمثالي ، عاصرت أحداث مؤلمة ومؤسفة خلال الفترة الماضية من حياتي ،رأيت من يولون المال كل اهتمامهم ، كونه – بالنسبة لهم – هو الإكسيد السحري الذي يمنحهم كل متع الدنيا ، أدركت حقيقة أننا بالفعل مجتمعات العالم الثالث –كما يصفونا الغربيين – ، كما أيقنت أن نظرتي الفلسفية للأمور لا تصلح داخل مجتمع بائس يرى أن المطلقة والأرملة صيد سهل ، تنتظر أي رجل عابر على قارعة الطريق ، ولو فيهم رجل عاقل حكيم لعلم بأنها لا يلهيها هذا أو ذاك ، ولا هي على راحتها تماماً بعد رحيل زوجها، ولا تنتظر الإعجاب من أشباه الرجال ، وأنها أكثرهن خوفاً على سمعتها وعلى نظرة المجتمعات البائسة لها ، لذا وبمرور الوقت أنتبهت لوجود أنثى أخرى بداخلي تختلف تماماً في سلوكها ونظرتها للأمور ، تنظر للأمور من زاوية منطقية لمنظور واقعي بحت ، لم أتغير كلياً بل حاولت فقط أن أتأقلم مع إزدواجية المجتمعات العربية ، الذين يريدون الفتاة المُنكسرة الخاضعة وكأنها علاج لضعفهم ليشبعوا نرجسيتهم ويمارسوا الضغط عليها ، لم أعد أنظر إلى الحياة نظرة المتشبثين بها ، المتعلقين بأذيالها التي تجر وراءها مصائر البشر ، لم أعد أرقب عجلة القدر وهي تدور ، كثيراً ما تلمع عيوني بدموع مكابرة عندما يسألني عنك أحد أبنائنا ، لذلك وضعت صورة كبيرة لك داخل إطار ذهبي يليق بك ، أعانق نفسي كثيراً حتى أتجنب البكاء أمامهم ، مضت عشرات الأعياد بدونك كنت فيها أُجاهد لأمنحهم السعادة المطلقة ، بينما لم تتسلل تلك السعادة المتناثرة في الأجواء إلى حدود روحي ، انشغلت عن تحقيق سعادتي من أجل أن تكون كل السعادة من نصيبهم، لقد أصبحت مهزوزة عاطفياً ، غير مكتملة البنيان النفسي في غيابك ،مُمزقة من الداخل علي آثر تزاحم أمنياتي التي لن تتحقق من دونك ، ولكن لا تخشى على من منحتك كامل حبها ، ولن يحل أحدهم مكانك بقلبي ، فذلك العام القاسي انتهى مرتين ، مرة عند رحيلك ، والأخرى مع إنتهاء أخر أيام شهر ديسمبر ، ليذهب بعمري الذي أنفقته في لحظة رهان مع الحياة ، لازال طيفك يُحيط بي من كل صوب ، ولا يشي به إلا رائحة عطرك المميزة ، التي لم تفشل يوماّ في أختراق أعماق روحي ، أما عن ملكية قلبي ، فلم تؤول لي بعد رحيلك ، بل لا يزال حكراً لك حياً وميتاً ...طبت وطاب مرقدك ،ولنا لقاء عند رب رحيم ..."

حاولت أن توقف سيل الدموع التي تفجرت من عيناها ، ولم تتمكن من هذا إلا بعد دقائق ، ثم أخذت تطوي رسالتها لكي تضعها داخل حافظة الرسائل التي كتبتها له ولن تصل ، وفي ذلك الحين سمعت طرقات هادئة على باب غرفتها ، قبل أن يدخل إلى الغرفة أحد أبنائها وهو يفرك عينيه في كسل وهو يقول 

– كنت أعلم أنه لا يكذب !

نظرت الأم في حيرة بالغة إلى صغيرها الذي تجاوز الخامسة من عمره ببعض الشهور ، وكانت تهم بقول شيء ما إلا أنه تابع قائلا

– لقد زارني أبي في المنام ، وقال لي " أذهب إلى أمك يا فتى أنها في أمس الحاجة إليك ، وأطلب منها أن تكف عن البكاء ،وقل لها أن النجوم تتلألأ في السماء ، ولا يليق بها البكاء مهما ضاقت عليها حلقات الظلام ، ومهما بدت حزينة

لن ينطفئ بريقها. 


الكاتب 

محمد داوود

1.3.2022




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جمال الريف//الكاتبة نجاح الشرقاوى

 جمال الريف  يبهرني جمال الريف؛ بألوانه الخلابة، بأنهاره الجارية، وأشجاره الشامخة، تتلاقى فيه الألوان والروائح العذبة، تعبق بالهدوء والسكينة...