قصة قصيرة بعنوان
( مقهى الذكريات )
هكذا هي الحياةُ تجمعنا بأشخاصٍ نحبّهم ونحترمهم ، ونقدر ُ وجودهم في حياتنا ، فنقتربُ منهم ونستمدُ منهم القوة والأمل ، ونصنع معهم ذكرياتٍ جميلة ترافقنا مدى الحياة .
ربما ننسى أنفسنا يوماً أو ننسى وجودهم في مُنعطفاتِ حياتنا ، ليس لأننا نريدُ نسيانهم ولكن لأن الحياةَ تأبى أن تجمعنا بهم ، عندها لن يبقى لنا سوى فتاتٍ من الذكريات بقيت عالقةً بأذهاننا .
كنتُ كزهرةٍ متفتحةٍ في فصلِ الرَّبيع ، أحلمُ بالحب كغيري من الفتيات ، أعيشُ تفاصيل يومي بهدوء ، وذات يوم بدأتُ أقتحمُ دوامة هذا العالم الافتراضي ( الفيسبوك ) أهرب فيه وإليه من واقعي ، أعيشُ الحياة بكل تفاصيلها كطفلةٍ ما زالت تلهو بلعبتها الجميلة ، فقد كنتُ ولا زلتُ فتاةً عابرةً في حياةِ الجميع ، تَمرُّ ولا تضر .
لا أعلنُ لأحدٍ عن نفسي أو عن مشاعري ، أحتفظُ بتفاصيلي الصَّغيرةَ لنفسي ، أعيشُ حُلمي الجميل بيني وبين نفسي ،أحبُ ،أكرهُ ،أغني ، أرقصُ في عالمي وحدي .
لا أسمحُ لأحدٍ باقتحامِ خصوصياتي ، أصنعُ حاجزاً بيني وبين الجميع ، أعلمُ أنهم رائعون ولكنني أخشى أن أتوه بينهم أو أن أقعَ ضحيةً لأحدهم .
وها هو أستطاعَ أن يجتازَ هذا الحاجز َويحطمَ هذا الجدار ، أستطاعَ أن يحطمَ أسواري العالية ، وأن يفتتحَ هذا الكتابَ ويتصفحُ ما فيه ، ويوماً بعد يوم تعلَّق بي وتعلَّقتُ به ، أحببته ، صنعتُ له بيتاً في مُخيلتي في ذلك الجزء الصغير الذي يقعُ في يسارِ صدري ، أبحرتُ في عالمه ، لعلّي أجدُ لديه غايتي ، أحببت طريقةَ حُبهِ لي ، كلماته ، قصائده ، غضبه ، رسائله ، لكنهُ حاولَ أن يدنسَ مشاعري ، فلقد علمتُ بأنني لستُ الوحيدةَ في عالمه ، وربما كنتُ تسليته ، أدركتُ حينها أنهُ ما زالَ غامضاً بالنسبة لي ، ما زالَ يُخفي الكثيرَ عني ، حاولتُ مراراً وتكراراً سؤاله لكنهُ كانَ ينسحبُ من الإجابةِ معللاً ذلك بالظروف التي لم يفصح لي عنها يوماً ، أدركتُ حينها أن عليَّ الإنسحابَ والإبتعادَ عن عالمه .
تأسفَ لي وأرسلَ وما زال يرسلُ رسائل رجاءٍ بالسماحِ له بالعودة ، انتابتني الحيرة هل أتنازل وأسمح له بالعودة ؟
ولكنّي اتخذتُ قراري .
كلا لن تعود .
أتعتقدُ الأمرَ بتلك البساطة !!!
الآن تقولُ آسف !!
الآن تريدُ العودة !
وأنا ماذا سأفعلُ بقلبي الذي تأذى بسببك ؟
ماذا سأفعلُ بأحلامي التي تلاشت أمامَ صفعاتِ غدرك ؟
مهما كان حُبك بداخلي قوياً سأعلن الحرب على قلبي كي ينساك .
كي أحطم قيودك عن معصمي ، وستعودُ غريباً كما كنت .
قد أحن ُ إليك يوماً وقد أتصنعُ المشاكل كي أعود إليك تائهة .
توبخني أو ترشدني لعلّي أكونُ بذلك راضية ،كي أنالَ منك جرعة اهتمام ، ألهو بها وأعيشُ على فُتاتِ ذكراها أياماً وأيام .
لكني سأغادرك من جديد ، فأنا لن أعود إليك .
كتبتُ له تلك الكلمات لكنني لم أستطع إرسالها فمزقتها وغادرتُ عالمهُ .
ذاتَ يومٍ كنتُ قد سافرتُ للعمل في أحدى الدول وكنتُ يومها عائدةً من عملي ، وكان الجوُّ ماطراً ، وكان المطرُ غزيراً والرياحُ شديدةً .
حاولتُ أن أحتمي من المطرِ لكنني لم افلح َفي ذلك ، فقد تمزقت مظلتي من شدة الرياح والأمطار الغزيرة ، وبدأ الأمرُ يشتدُ صعوبة ، أخذتُ أبحث عن مكان يحميني ، فلمحتُ من بعيد مقهىً غريبُ الشكل يوحي بالقدم ، فدخلته مستغربةً من نفسي ، أي صدفة تلك التي أدخلتني إلى ذلك المقهى الغريب ، في ليلةِ شتاءٍ باردةٍ ، بعد تساقط الأمطار الغزيرة التي ألجأتني إلى ذلك المكان .
جلستُ هناك على كرسيٍ خشبيٍ بجانب النافذة ، بالقرب من مدفأةٍ صغيرةٍ كانت تشعرني بالدفء والأمان .
فطلبتُ فنجان قهوةٍ ساخنٍ وقلمٍ وبعض الأوراق ، كي امضي بعض الوقت ريثما يتحسنُ الطقس ، ويخفُ تساقط المطر .
فجاءني نادلُ المكان يحملُ فنجان قهوتي وبعض الأوراق ومحبرةً وريشةً صغيرةً ، فأخذتُ أخطُ بها بعض الكلمات ، وما أن انتهي أمزقُ أوراقي .
استغرب النادلُ تصرفي ، فجاء يسألني ما بي؟
فأخبرته أن روعة المكان ودفئه ، أوحى لي بكتابة روايةٍ جديدةٍ ، لكنني ما أن أنتهي حتى أجدُ كلماتي لا تسعفني ،
فأمزقُ أوراقي وكأن شيئاً لم يكن .
فقال ليّ النادل : لا تستغربي ذلك !
فمن يدخلُ هذا المقهى عليه أن يحظى بواجب الضيافة .
فقلت : وما واجبُ الضيافة هنا ؟
فأجابني : واجبُ الضيافة هنا نسيانُ ما قد جئتِ به من ذكرياتٍ وأحزان .
وما هي إلا لحظات حتى دخل أحدهم من باب ذلك المقهى ، شخصٌ غريبُ الأطوار يغزوه الشيب ، يحملُ معطفهُ على كاهله ، وينفضُ عنه بعض قطرات المطر العالقة بشعره الأبيض .
أخفيتُ ملامح وجهي عنه كي لا يعرفني بعد هذه السنوات الطوال ، إنّه هو .
ما الذي جاء به يا ترى ؟
ماذا يفعل هنا ؟
هل ما زال يذكرني ؟
سألتُ النادل عن ذلك الرجل ، فأستغرب من سؤالي وقال : لا أحد هنا غيرك فسألني النادل : هل هناك من تودين نسيانه ؟
هل ما زلت تذكرينه ؟
هل ما زالت ذكراه تزورك ؟
خيّم الصمتُ على المكان للحظات ، حاولتُ كتم أنفاسي ، عندها أدركتُ أني كنتُ أحلم ، فقمتُ وحملتُ معطفي وخرجتُ من المكان قبل أن أنسى ذكرياتي الجميلة ، وشكرتُُ النادل على حسن الضيافة ، ووعدته بالزيارة يوماً ما وغادرتُ مسرعة .
الكاتبة
إكرام محمد التميمي
30/12 /2020