حَنانَيْكِ أُمّي.
أُمّي، غِبْتِ عَنّي وَغابَ مَعَكِ كُلُّ النّورِ وَالطُّمأْنينَةِ وَالأَمَلِ. ما عادَ هُناكَ صَدرًا حَنونًا أَلجَأُ إِلَيْهِ لِأَمْتَصَّ مِنْهُ حَليبَ الفَرَحِ. ما عادَ هُناكَ قَلبًا أَلوذُ إِلَيْهِ وَقْتَ الشِّدَةِ أَحتَمي بِهِ مِنْ غَدْرِ الزَّمَنِ.
أُمّاهُ، لَوْ بَكَيْتُ عَلَيْكِ طَوالَ الدَّهْرِ، ما وَفَيْتُكِ ذَرَّةً واحِدَةً مِنْ فَيْضِ حُبِّكِ الغَزيرِ. وَأَمّا هذا الفُؤادُ الكَبيرُ، فَكُنْتُ أَجِدُ فيهِ مُخْتَلِفَ أَنواعِ الحَنانِ الّذي كانَ يَسكُبُ الطَّمأْنينَةَ عَلى كُلِّ خَلْجَةٍ مِنْ عُروقي. حَمَلْتِني في أَحشائِكِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، وَتَعِبْتِ الكَثيرَ الكَثيرَ، لِأَتَرَبّى وَأَتَعَلَّمَ. كَبُرْتُ يا أُمّي، وَأَنْتِ مَعي، تَشُدّينَ مِنْ أَزري، وَتَدْفَعينَ بي مِنْ نَجاحٍ إِلى نَجاحٍ. كُنتِ تَفرَحينَ مِنْ صَميمِ قَلبِكِ عِنْدَما أَفرَحُ، وَتُشارِكيني حُزني وَكَأَنَّكِ المَحزونَةُ لا أَنا.
آهٍ يا أُمّي، كَمْ أَتَأَلَّمُ لِرَحيلِكِ عَنِ الدُّنيا، إِنَّها فاجِعَتي الأُولى. كَيْفَ أَنساكِ يا مُهْجَةَ قَلبي وَنورَ عُيوني، وَكُلُّ رُكْنٍ في البَيْتِ يُذَكِرُني بِكِ؟ زَرَعْتِ في نَفسي حُبَّ اللهِ، تَعالى، وَحُبَّ الوَطَنِ وَالأَرْضِ، فَما كُنتُ أُطيقُ السَّفَرَ خارِجَ فِلَسطينَ، حَتّى أَعودَ إِلَيْها وَإِلَيْكِ : إِلى ذلِكَ الحُضْنِ الكَبيرِ وَاليَدَيْنِ اللَّتَيْنِ كانَتا تَضُمّاني إِلَيْهِما، ضَمَّةَ العاشِقِ لِمَعْشوقَتِهِ. وَالعُيونُ تَفيضُ رَحمَةً وَخُشوعًا، فَأَصيرُ مَعَكِ وَبِكِ عُصفورَةٌ وَجَدَتْ مَلاذَها وَطُمَاْنينَتَها أَخيرًا.
رَحَلَ الحَنينُ يا أُمّاهُ بِرَحيلِكِ، وَرَحَلَ فَلبي إِلَيْكِ يُناجيكِ في كُلِّ لَيْلَةٍ، يُفَتِّشُ عَنْكِ في رَحِمِ السَّماءِ، رَحَلَتْ مَعَكِ أَشواقيَ التائِهَةَ في بَحْرِ المَجهولِ. لَمْ يَعُدِ لي أَحَدٌ يُشارِكُني أَفراحي، أَحزاني، أَوْ هُمومي. الدُّنيا تَضيقُ بي، حَيْثُ بِتُّ أَسْتَعطي الأَمَلَ في زَمَنٍ أَطبَقَ عَلَيْهِ صَمتُ المَوْتِ.
أُمّاهُ، يا أَعَزَّ النّاسِ عَلى فُؤادي، بَلْ يا كُلَّ النّاسِ. البَيْتُ كَئيبٌ مُظلِمٌ، يُنادي عَلى الّذينَ رَحَلوا وَتَرَكوا أَسعَدَ ذِكرى وَأَجمَلَ لَحْنٍ سَأَكْتُبُهُ مِنَ الآنَ فَصاعِدًا عَلى جُدرانِ قَلبي وَدُموعُ عُيوني الّتي لَمْ تَعُدْ لِتَجِفَّ حَسرَةً عَلَيْكِ.
وَأَخيرًا، أَدعو اللهَ، العَلِيَّ القَديرَ، أَنْ يَرْحَمَكِ، وَيَتَجاوَزَ عَنْ سَيِّئاتِكِ، فَأَنْتِ الأُمُّ وَالرّوحُ وَالعاطِفَةُ وَالأَمَلُ وَالسَّعادَةُ وَالفَرَحُ وَالدُّنيا بِأَسْرِها، وَبِرَحيلِكِ رَحَلَتْ كُلُّ تِلكَ المَعاني الجَميلَةِ.
الإِهداء : إِلى روحِ والِدَتي بِمُناسَبَةِ مُرورِ سَبعَ عَشرَةَ سَنَةً عَلى رَحيلِها.
الكاتبة
عبير محمود أبو عيد
14.11.2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق