"صلاة ظلٍّ في معبد الرمل"
بقلم سيد حميد عطاالله الجزائري
في أقصى نقطة من العزلة، حيث لا يُسمع إلّا همس الريح وهي تُمشّط شعر الرمل بخفة راهبة، تنبت شجرة.
لا شيء حولها سوى صمتٌ كثيفٌ يشبه الحكمة، وسكونٌ يتهجّى أسماء الراحلين.
الشمس لا تشرق هنا كما في المدن،
بل تولد من رحم التراب، من باطن السراب،
كأنها تشرق لتلك الشجرة وحدها،
تمنحها ضوءًا لا للثمر، بل للظل،
ظلٍّ طويلٍ كندبة في خاصرة الوجود،
يتمدّد على جسد الرمل مثل صلاةٍ ساجدة.
كلُّ عرقٍ في جذعها يعرف حكاية عطش،
وكلُّ ورقة، وإن خضرتْ، فقدتْ لونها في الطريق إلى الحياة.
هكذا تبدو، شامخةٌ كأنها لا تنمو،
لكن في داخلها نهرٌ خفيٌّ من الصبر،
يجري ببطءٍ لا تراه العيون العجلى.
كم سحابة خجلة مرة فوق الشجرة ترمي بالنزر اليسير من قطراتها اليابسة
تسقطُ على جبينها كأنها دموع ثكلى تبلل خد وليدها الذي يختبئ
تحت حنانها المنكسر،
أما تلك التموجات التي حفرتها الريح على الرمل،
فهي ليست زينة عابرة،
بل رسائل كتبتها الريح بإبهامها العاصف،
ربما قصيدة تشبه "قفا نبكِ"،
أو قصةً كتبتها الصحراء بنفسها على ضوء القمر،
حيث تكون الحروف من حنين، والسطور من رملٍ يرتجف.
وربما... كانت تلك التموجات آثار أقدام الريح،
مرت من هنا،
فابتسمت لها الشجرة بصمتها المعوج،
كأنها تتواطأ معها على سرٍّ لا يُقال.
الرمال؟
ما زالت تتدحرج،
كأنها تبحث عن حروفٍ مفقودة
لتضع النقاط على سطور الزمن المتقطعة.
تسير الرمال بلا وجهة،
تفتش عن جملة لم تكتمل،
عن اسمٍ ضاع في آخر القصيدة،
عن شهقةٍ نُسيت بين فاصلتين.
الصحراء ليست مجرد تَقارُن ضوءٍ وشجرة،
بل هي قصيدة بلا قافية،
نُسجت من خيوط صمتٍ وماءٍ مفقود.
أليست هذه الشجرة شبيهة بإنسانٍ آمن بالوقوف،
رغم أن لا أحد يأتي،
ولا أحد يسأل: "هل عطشتَ؟"
أليست مثل أمٍّ،
أنجبت غصونًا ثم رأتهم يسافرون في اتجاه الغياب،
فظلّت وحدها، تمشط بظلّها ذاكرة الرمل،
وتنتظر سقوط نجم،
أو مرور غيمةٍ تشبه المغفرة؟
الرياح لا تقتلعها،
لأنها ليست مجرد جذور،
بل عهد قديم بين الأرض والسماء:
أن تبقى شاهدةً
حين يمرّ الزمن دون أن يلوّح.
هذه السيميائية ليست مشهدًا صحراويًا،
بل مرآة لداخلنا،
نحن الذين نغرس ذواتنا في المجهول،
نمدّ ظلالنا في قلب العدم،
ونحاول أن نُقنع الحياة بأننا جديرون بالبقاء...
حتى لو كنّا مجرد أشجارٍ،
في معبد الرمل الكبير.
الكاتب
سيد حميد عطاالله.
31/8/2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق