صرخات تحت الإسفلت
تحت الإسفلت تنام القيامة.
الأرض هناك ليست مجرد طينٍ مسجون، بل كائن جبّار يتهيأ للانفجار، يخزّن في رحمِه صرخات العصور، دموع الغابات المقطوعة، أنين الأنهار المذبوحة، وحسرات الأرواح التي خُنقت تحت أقدام المدن.
صرختها ليست صرخة عشبٍ يبحث عن ندى، بل صرخة كونية، نداء يتسع حتى يشمل السموات.
هي الأرض حين تضيق بصمتها، حين تمتلئ حتى لا تعود قادرة على احتمال الخرسانة، فتشقّها كما يشق البرق ظلمة الليل.
تحت الإسفلت يتكوّر الحنين، يتخمّر الغضب، تتكدّس الأشواق… كأن الأرض تتحوّل إلى بركان من نور.
لا أحد يستطيع أن يكمم فم الأرض.
ستتكلم بلغتها الخاصة:
زهرة تخرج من صدع باهت،
غصن لشجرةٍ يريد تحرير أرضه،
جذرٌ يتمدد تحت بلاطٍ بلا قلب، بلا روح، بلا حياة…
وفوقه دوران العجلات، بلا هدف، بلا وجهة.
وحين تحين الساعة، لن تخرج ورقة خضراء فقط، بل ستنشق الأرض كلها.
تنهض أشجار كأعمدة لهب، تتفجر أنهار كسيوفٍ من ماء، وتنهار الطرق والمدن والعمائر كما تنهار الأصنام أمام فجر التوحيد.
تلك الصرخة من تحت الإسفلت نبوءة:
لا قوة تمنع الحياة من ميلادها،
لا حجاب يحجب النور عن ظهوره.
إنها قيامة تبدأ من ورقة صغيرة، من شق ضئيل، لكنها تكبر حتى تصير زلزلة للعالمين.
ما زال نبض الأرض يدقّ، وإن كان ضعيفًا.
كل خطوة فوقها طعنة، لكنها لا تموت.
فالأمل حيّ في بذرةٍ تصلي قبل الانبثاق،
في رحمٍ يستعد للولادة من جديد.
وحينها سيعرف الناس أن الإسفلت لم يكن إلا غطاء هشًا فوق صدر الأرض، وأن الأرض نفسها آية من آيات الله، تنتظر لحظة أن تعلن:
"ها أنا ذا… أنا الحياة التي لا تُقهر،
أنا البعث الذي لا يُوقف،
أنا القيامة التي تنبض في كل ذرة،
أنا الصرخة التي لا يُخمدها حجر ولا يُسكِتها إسمنت."
إنه الإسفلت… رحم عقيم.
لا يلد إلا وهج اللهب، وسرابًا يتلوى كأفعى تلتف على فريستها المسكينة.
إنه عدوّ يتمدد في الغابات والبساتين والحقول والمروج،
في قلب شجرةٍ لم ينضج ثمرها البني،
ولم يكمل طائرها عشه الصغير.
لكن الأرض ستنهض من تحت الإسفلت كجيش أخضر:
جذرٌ يتصل بجذر، غصنٌ يتشابك مع غصن،
حتى تصير الكائنات كلها شجرة واحدة،
شجرة كونية تمتد من الجذور إلى عرش السماء،
وتكتب بظلها على الوجود كله:
الحياة لا تُدفن… القيامة حياة جديدة.
الكاتب
حميد عطاالله الجزائري.
20/8/2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق