اللعنة
كان مراقباً عظيم لمكسوري الجناح والبائسين الذين يعيشون في الشوارع... منهم القاصرون ومنهم المتسكعون ومنهم العابرون... كان بزوغ الشمس علامة استفهام بؤساء الحظ والقدر... أين المقر... أين المفر... هم وأمل، كدر وعمل؟
أن تكون أعمى أمرا ضروريا للحياة... فالنور ضوء فتاك.
صغيرا كان يرشق بالحجارة من فوق قنطرة الدشرة،
حافلة التنفس التي تربط سكان القرية وسكان المدينة. كان هذا العبث لهوه وشغفه وثورته على والديه وسكان ريفه...
شابا، كان عازف عود بارع في الأعراس دون مقابل...
والآن موسيقي عالمي يبحث عن الحقيقة في الذكريات الدفينة... إنه فاتح القبور لملاقاة الأرواح السرية إعلاءً للحق.
روحانيا يناجي الإنسان لأحياء بعثه من جديد بعد سبات السياسات المدجنة.
تسكنه سلسلة من الوجوه التي حامت به في أحلك الأسواق الندية أين يباع البشر بالمعصية والضمائر الكافرة...
فتاة مدِينة استولت عليها العاطفة المستبدة؛ فأرجعتها سبية
أب محب لكنه محمول على بنت العنب؛ للغياب على الرعية...
أم ممزقة بين غياب زوجها الثاني وضياع ابنها المراهق؛ هكذا عاشت ضحية...
إمام جليل، يقصف مصلّية برسائل مجهولة؛ لعله اعتبرها وصية...
فتاة عانس أجبرت على الإجهاض خوفا من الفضيحة؛ حلمت تصبح تقية...
عبيد خبز العائلة الموسعة؛ إسعادا للأسرة الأبدية.
شباب عاطل عن العمل يشفي فراغه بأقراص
المخدرات؛ تغزلا بنجومه العاطفية.
دواوين ثرثرة في كل حلقة من علماء الجهل في البلاد؛ أخذوا الشعب مطية.
وسمين البطن ينهب ما يشاء، لا شيء يردعه ولا ثروة تشبعه؛ عاش طليقا كطيف الصقور البرية...
أما المعارك العشائرية والتحالفات الطائفية، كانت دينية أو مدنية، والخيانات لا تفزعه ولا يسأل عنهم.
لقد هاجر مشاغل القرية الدنيئة.
كلها صور من ماض يرجو حتفها ليرجع للنبات خضرته ورائحته... الزكية
يتساءل! أين ذهب الحب؟ أين أستأصل العدل؟ أين هم ناس الزمان الطيب؟
كلما ذهب أبعد في حرث ماضيه، أصبح المشهد أكثر وضوحًا. إنه في عجلة من أمره... لا يفقد صبره... الاكتشاف جزء من مرحه... واللقاءات الجديدة ترسانة عقله.
"أحلم ما بدأ لك ببلدك الطاهر" قال في نفسه وهو يضحك، الطاهر في مستنقع الماء النتن لا يطابق التعبير عن المشهد الذي يواجه قدميه وهو يزحف... هذه هي رؤيته... تبقى مشمسة رغم الغيوم المتراكمة.
بعث الحيويّة والنشاط والإنعاش والتجديد في كل ما يلمس من المواد الميتة... إنه محي عظام الخشب والبشر والحديد والحجر...
هل بلده المتخيل، هل هو بالفعل موجود؟ سأل نفسه... طوباويا أنا أم مستهلك شهوات المتعة المعلنة محرمة مسبقا قبل الظهور.
أخذ عوده وحقيبته وغاب في السواد ولم نره من ذلك الوقت...
كان مفترق الطرقات عامرا بثباته واليوم أصبح عاهرا بغياب خياله... مات الورد الأحمر الذي كان يرشه كل يوم بمائه المستورد من حنفيات الحاكم وفارقت العصافير شجرة الحياة... معه... إلى الأبد.
وبعدها لعن كل كلمة...
* الصورة للرسامة سعاد القروي من تركي تونس
الكاتب
عبد الفتاح الطياري
3.12.2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق