هل يتشوّهُ الجمال؟
وهل يتشوهُ الجمالُ إذا
تَغَطّى بالنقابِ أو اختفى؟
وهل تخفى النجومُ إذا
غفتْ في الليلِ، أو خَبَتِ الصَّفا؟
إذا ما الريحُ عبثتْ بها،
هل الورودُ تموتُ أو تَسْتَحِي؟
وهل تغدو الحقيقةُ وَهْماً،
إن نطقتْ بلغةٍ تُبكي؟
رأيتُ اللهَ في كلّ شيءٍ،
في الحطامِ، وفي ارتقاءِ المدى
وفي عيونِ من اختنقوا
وهم يفتّشون عن الهدى
وفي المكسورِ نورٌ سريّ،
وفي المجروحِ عطرٌ ندى
فلا تقُل هذا قبيحٌ، بل
قُل: فيه وجهُ اللهِ قد بدا
أليس الجرحُ باباً لنا
نطلُّ منهُ على السما؟
وهل كانَ الحسينُ جميلًا
لولا الدمُ، لولا البلا؟
فيا من تسأل: "هل يشوهُ الجمالَ غباره؟"
أقول: الجَمالُ روحٌ، لا تُنَكِّرُهُ العبارةُ
وهل يتشوهُ الجمالُ إذا
تَغَطّى بالنقابِ أو اختفى؟
وهل يخبو بريقُ الحقّ
إن سكنَ الحطامَ، وإن عفا؟
إذا ما الريحُ مزّقتِ الدُنا،
هل في التَمزُّقِ ما جفا؟
بل كلُّ ما يفنى يُروِّي
أصلَ ما لا ينطفى
رأيتُكَ، يا جمالَ الكلّ،
في وهجِ النُقصِ والكمالْ
وفي المدى المنسيّ، في
همسِ السرابِ على التلالْ
أُحبُّكَ لا لشيءٍ فيكَ
بل لأنّكَ كلُّ حالْ
تفنيتُ فيكَ، فما بقيتُ،
ولا بقيتُ سوى الظلالْ
أحببتُكَ، لا كما العشّاقُ
يهوَونَ الصفاتْ
بل كما السُّكرى
إذا انحلّتْ حدودُ الكائناتْ
فما القُبحُ؟ وما الحُسنُ؟
إذا ما الفناءُ إليك نادى؟
وما الوجهُ سوى مرآةِ
نورِكَ إن تجلّى، أو تَوارى خلفَ سُدى؟
فلا تسألْ: "هل يتشوّهُ الجمال؟"
اسألْ: "هل تبقَى أنا؟"
فإذا ذُبْتَ، وصِرتَ هو،
رأيتَ وجهَكَ في العَنا
رأيتَ كلَّ قُبحٍ،
هو عينُ الحُسنِ إذا فَنا.
هل يتشوّهُ الجمال؟
وهل يتشوّهُ الجمالُ إذا
تغطّى بالنقابِ أو اختفى؟
وهل يخبو ضياءُ اللهِ
إن سكنَ الحطامَ، أو انطفى؟
إذا ما انفلقَ الندى عن شوكِهِ،
هل صار وردًا منطفى؟
أم هل في كلّ جرحٍ
سرُّ محبوبٍ خفى؟
أحببتُكَ، لا كما العشّاقُ
يفتنُهم ضياعُ الصّورْ
بل حينَ نادى القلبُ: "هو"،
سَقَطتْ على القدمينِ دُرَرْ
تفنيتُ فيكَ، فما بقيتُ،
ولا بقيتُ سوى الأثرْ
أنا والماءُ سواءُ فناءٍ،
أنا والنارُ شَوقُ القدرْ
سيدي الحاج بلقاسمُ سارَ،
بصدرٍ حافٍ، إلى العينْ
ما كان يريدُ سوى شُربةٍ،
لكنّ الماءَ... نادى: "تعالْ، وذُبْ كالسّرابْ"
نظرَ، وما شربَ،
بل انسكبَ فيه كما الضبابْ
واختارَ الفناءَ، وقال:
"الماءُ ربٌّ إن تَجلّى، ليس يُجابْ"
فلا تقلْ: "هل يتشوّهُ الجمال؟"
بل قُلْ: "هل رأيتَ إذا فنيتَ، من ترى؟"
أنا ما رأيتُ سواكَ، يا من
تَجلّيتَ في كلّ ما بَرا.
وهل يتشوّهُ الجمالُ إذا
تغطّى بالنقابِ أو اختفى؟
وهل يضيعُ النورُ إن
كُسِرَ الفَنارُ، أو انطفى؟
وفي الركامِ سرُّ مجدٍ
قد تعرّى واكتفى
فلا تَسَلْ عن قُبحِ شيءٍ،
كُلُّهُ منكَ، إن عَفا
أحببتُكَ، لا كما يهوى
العشاقُ وجهاً أو سِنى
بل كما تفنى الجبالُ
إذا مرّتْ بها يدُ المِنَى
تفنيتُ فيكَ، فصارَ قلبي
خيمةً للّامكانْ
ولا سُواكَ سوى خيالٍ
عابرٍ فينا، وكانْ
سيدي الحاج بلقاسمُ،
مشى إلى العينِ كما الوليدْ
يرجو الشُّربَ، فهتفَ فيه الماءُ:
"فَنايَ سرُّكَ الأكيدْ"
فلم يَشربْ، بل ذابَ فيه،
كما يذوبُ النجمُ في وعْدٍ بعيدْ
وقال: "دعوا المقامَ لربّهِ،
فأنا له، لا للحديدْ"
واليومَ، تُركَ المقامُ،
تأكلهُ الريحُ والغُبارْ
كأنّ من ذابوا به
صاروا سؤالًا في النهارْ
لالة ثيمركيذوث، يا
ظلَّ أنثى من سُررْ
فيكِ يُسقى السرُّ حيًّا،
ويُروى الدمعُ إذا انحدرْ
في عينيكِ إشراقُ مَن
لم يَخَفْ ضوءَ الأزلْ
وفي صمتكِ طُهرُ مَن
غابتْ به كلُّ السُبُلْ
فلا تسأل: هل يتشوّهُ الجمالُ؟
بل قُلْ: هل للغائبينَ مقام؟
وهل لِمَن اختاروا الفناءَ
بقاءٌ في عيونِ الكرام؟
أنا ما رأيتُ سواكَ، يا من
يَسكنُ الترابَ والغمامْ
كلُّ وجهٍ في الدُّنا
يُخفيكَ — إن طالَ المُقامْ.
يا منْ خلقتَ الماءَ سرًّا،
والفناءَ سبيلَنا
يا من جعلتَ الشوقَ نارًا
لا يُطفئُها الغِنَى
إن نسينا مَن فنوا،
فارفعْ لنا مِيزانَهم
واجعلْ ترابَهم سِراجًا،
نَقتدي من نُورِه
واملأْ مقامَ الحاجِّ وردًا،
رغم صمتِ الزائرين
واحفظْ لالةَ في ظلّكَ،
من جفاءِ الغافلين
واجعلْ جمالَك في قلوبِنا،
لا يَشوههُ الظلامْ
فكلّ مَن ذابَ فيكَ،
عادَ بالنورِ... إلى الدوامْ.
الاستاذ محمد شيخي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق