** * بحر *
البحر بما فيه
وما له ، وما عليه وحوله
هو آخر ما تبقى لديه ، حيث يجتاز الرصيف الفاصل بينه وبين الشارع المؤدي الى عناوين يجهلها ومسارب متشعبة كأسنان الحوت
يرافقه في مسيره كوب من القهوة فيه من البرودة ما يجعله قابلاً للجفاف . وعدد لا باس به من السجائر التي راح يحرقها بنهم كمن يريد الانتقام منها ... ويتمادى في السير بتؤدَّة على احجار الرصيف كعروس مدللة بكعبها العالي الأنيق
تلحس مخيلته أنامل الوقت ، وتجفف جلدة حرارة الشمس بصهيلها الذي يعلن الصيام
بينما كان يشرد مع خيالاته المشتته
تهادى الى مسامعه صوت صديقه القديم الذي عبر الشارع اليه بسرعة خيالية خشيه ان تفترسه عجلات السيارات العابره فقال له :
-- كيف أنت يا صديقي وما بك لم أرك منذ مده
راقبتك عبر المسافة وأنت تمتار الرصيف وتركل الحصى كمن ينتقم منها ، وتحرق صدرك بتلك السجائر التي لا تكاد تنطفىء
أخذ نفساً عميقاً كأنه آخر ما يتيسر له من الهواء
وقال :
-- أهلاً بك أيها العزيز . جمعتنا الأيام الغابرة لكثير من الوقت ، لكن تبدل الأحوال يحصل حتى بين الأصدقاء والمحبين ، على كل حال
لا شيء بي ... إنني بخير
-- إذن ...
-- يا صديقي أحياناً يكون للسماء لون مختلف فهي تتمادى في نرجسيتها ومزاجها الأحمق
وللهواء رائحة لا تكون مستحبة لكنها تدخل في خياشيمك كانها حتمية القدر
وللناس أشكال مختلفه . فترى في أعينهم الحيرة والدهشة والحزن والدمع والفرح ... والفراغ
ولكل ما حولنا عالم متغير كشاشة الاعلانات
-- لم افهم
-- إننا يا صديقي . أحيانا يعبر خيالنا في أودية خالية إلا من أنفسنا ويصعد بنا مرتفعات ويدور في منحنيات لا تشبه باقي الايام
تصحو من نومك كطائر مبلل
لا تجيد النظر الى المرآة فتنكر ما تراه
ولا تعرف بما تستر به جسدك المتهالك
ولا تعرف ما تحتاجه من الزاد او الشراب
تجتاحك رغبة الصمت او البكاء او التمادي في اختيار الامور الجامحة ... كنمر جريح
انها لحظة فاصلة تأتي بلا سبب وبلا سابق إنذار
بعض الحزن يطفو على رئتيك ويتحكم بتواتر انفاسك ويمتلك انتظامها او تنافرها
لا تجيد له ترتيب ولا تدرك معنى وجود الحزن في لحظة معينة سقطت من الزمان في اللامكان
هي تأتي و... انتهى
فتجد نفسك تتقاذفك الافكار في منطقة انعدام الوزن وتشعر انك بريء مظلوم ، وظالم مُدان
بريء من كل تهمة وجهتها لك بوصلة مزاج طاريء لا يمكنك ان تملك زمامه او تُحسن اقتياده
ولا تجيد كتم دوافعه
طوارق من لهب
ونسمات من نعيم الجنه
يتقاذفان عقلك وجسدك في كل اتجاه
-- يمكنني أن افهم أن هناك حالات يتملك الانسان شعور مريب وإحساس مبهم دون ان يعرف له سبب ... وهذا أمر مرحلي لا يدوم ، ثم يولي عنا
لا نعرف كيف أتى ولا كيف أو أين ذهب
-- هذا هو الحال يا صديقي
لقد صعدت الى رأسي آلاف الذكريات
تغلغلت بأصواتها في عقلي كألعاب العيد
واستغل زمني آلاف الصفحات
وتملكت نفسي كل التناقضات
ضرب عقب سيجارته الأخيرة ببلاط الرصيف بعنف كأنه يريد أن يقتله بحقد وقال :
-- أتدرك ما اريده الآن يا صديقي
-- ....
--- لا أريد سوى ان تمحى صورتها المرسومة بإتقان في دوائر من فضة تتأرجع على صفحة الماء ... كعناقيد من هواء
وليبتعد عني ذلك الموج الموشَّى بالزبد
ويبدأ الرمل بالعزف على إيقاع موسيقى السُّعال
د.يوسف علي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق