نبض نخلة: بين المشرط والبرزخ//بقلم الكاتب سيد حميد عطاالله

الجمعة، 22 أغسطس 2025

بين المشرط والبرزخ//بقلم الكاتب سيد حميد عطاالله

 بين المشرط والبرزخ



يُدفع السرير على عجلاتٍ بطيئة، كأن الزمن نفسه يُقاد إلى محكمة كونية.

الأنوار البيضاء فوق رأسه ليست مصابيح كهرباء، بل نجومٌ شاهدة على امتحان الروح.

وجهه شاحب، لكن قلبه يتلو صلاته الأخيرة، يطرق ضلوعه كطائرٍ يستعجل الخروج من قفصٍ ضاق به.

يرى الدنيا كأنها تُطوى من حوله، ويوقّع على شروط المشرط كما يوقّع على عهدٍ مع القضاء الإلهي.

لا حيلة له سوى أن يستسلم لسريرٍ صار نعشًا مؤقتًا، ولبدلةٍ زرقاء ككفنٍ مُعقم، ولطبيبٍ يخفي ملامحه خلف قناعٍ كأنه ملاك لا يُعرَف إن كان موكّلًا بالرحمة أم بالقبض.

ها هو يدخل العتبة التي لا تفصل بين غرفةٍ معقمة وجسدٍ عليل، بل بين عالمين: عالم الأحياء وعالم الغيب.

المشرط في يد الطبيب يشبه قلمًا في يد القدر، يفتح في اللحم سطرًا جديدًا من الكتابة الإلهية.

كل نزيفٍ محاصر ليس إلا حبرًا أحمر يخطّ سيرة الجسد، وكل شريانٍ يتردد في الخفقان إنما هو كلمة على وشك أن تُمحى أو تُكتب من جديد.

المريض يحدق في السقف كأنه يحدق في الغيب.

يتذكر أول صلاةٍ أقامها، وأول قبلةٍ على جبينه من أمٍ رحلت، وأول موجة بحرٍ كسرت خوفه.

كل شيء يعود بسرعةٍ عجيبة، كأنه يشاهد شريطًا أزليًا لا يمرّ إلا عند مفترق الرحيل.

ثم تأتي الغيبوبة، لا كظلمة، بل كستارٍ شفافٍ يرفعه الله عن العيون.

يسافر فيها المريض كمن يترك سجنه الأرضي ليعانق فضاءً رحبًا، تاركًا جسده الممزق على سريرٍ بارد.

المشارط هنا ليست أدوات قتل، بل مفاتيح تفتح الأبواب إلى ما وراء الجسد.

وهو، في فقدان إرادته، يعود إلى جوهره الأول: روحًا بلا اسم، وكيانًا يذوب في صمتٍ عظيم.

بين مشرطٍ باردٍ يخطّ آيةً جديدة في جسده، وغيبوبةٍ قد تكون جسرًا إلى الأبدية، يبقى معلّقًا في برزخٍ غامض، يسلّم أمره إلى يدين: يدٍ بشريةٍ تحاول إنقاذه، ويدٍ إلهيةٍ تكتب مصيره.

وحين يستفيق على صفعاتٍ خفيفة، يسمع الحياة تعود إليه بصوتٍ لا يخلو من الألم.

يفتح عينيه على عالمٍ ضبابي، لا ينتمي تمامًا إلى الحياة ولا إلى الموت.

يحاول أن يجمع بقايا وعيه، فيدرك أن ما رآه لم يكن وهمًا، بل زيارةً عابرة لذلك البرزخ الذي لا يصفه الكلام.

وحين يبتسم بمرارة، يعرف أن الشفاء الحقيقي ليس في جسده، بل في تلك اللحظة التي تذوّق فيها طعم الفناء، وارتشف من كأس الغياب جرعةً من الخلود.


الكاتب 

ال

سيد حميد عطاالله .

22/8/2025



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رثاء النور//بقلم الكاتب أركان القره لوسي

 رثاء النور  يَا دَمـعَ العين أستهَلّي في صفر على النبي بَــدَّلَ الـدُمـوعَ دَمـاءُ فقد مَـضَى فِيهِ سَـيِّدٌ مَـا أَولَدَت بِـمِثلِ شَـمائ...