نشيد الأرض العطشى
الأرض عطشى.
تتشقق تربتها كما لو كانت شفاهًا جافة، تتوسل قطرة ماء لتستعيد نعومتها المفقودة. كل شقّ في التراب يشبه تجعيدة على وجه شيخٍ أنهكته السنين، أو جرحًا مفتوحًا في صدر عاشقٍ لم يذق رحيق الوصل. إنك حين تنظر إلى تلك الأرض، تظنها جسدًا يابسًا يتنفس من بين شقوقه أنينًا مكتومًا، كأن الأرض كلها فم عطشان، يبحث عن نبع، عن مطر، عن سحابة واحدة تنقذها من هذا الاحتضار البطيء.
إنها تصرخ من كل شقّ، تبعث برسالتها لعلها تصل إلى ديمةٍ عابرة، إلى قلبٍ تشقق فارتوى بجبر خاطر. إنها تموت، وما تلك الشقوق إلا قبور مبعثرة تدفن بداخلها الحياة. فمتى تحمل الريح الغيمَ؛ لكي تنفخ في الصور، فيبعثر ما في الأجداث إلى الحياة مرة أخرى؟
إنها لا تطلب الكثير. تريد فقط قطرة، كما يريد قلبٌ ضائع كلمة، وكما تريد عيون باكية حضنًا واحدًا. لكن السماء تعبرها فهي أحيانًا صامتة، كأنها تتعمد أن تتركها تتفطر، لتتحول التربة إلى لوحة حزينة من التشققات التي ترسم خرائط الانكسار.
وتتلو الأرض صلواتها بسِفر يابس، وكلما توضأت لكي تصلي أبطل الجفاف وضوءها، فتضطر إلى التيمم بجسدها المترب.
ورغم معاناتها الشديدة، تجلدها الشمس كل يوم بأشعتها اللاهبة، فتتشقق من كثرة الجلد. وحين يجنّ الليل يلبس القمر بدلته البيضاء، كأنه طبيب يداوي جروحًا في خاصرة الألم، لكن مراهمه لم تنفع في وجه ما أفسده القيظ؟
إن العطش هنا ليس عطشًا للماء فحسب، بل عطش للرحمة، عطش للحياة. كل نبتة صغيرة ماتت واقفة، وكل عشبٍ ذابل صار شاهدًا على مأساة ممتدة. حتى الهواء صار متشققًا مثل التراب، يمر على الوجوه ساخنًا، كأنفاس صحراء يئست من وعود المطر.
ومع ذلك، تظل الأرض صابرة. في قلبها سرّ عجيب، فهي تعرف أن العطش اختبار، وأن المطر لا بد أن يأتي ولو بعد حين. إنها تنتظر، كما ينتظر العاشق جوابًا على رسالة لم تصل، وكما ينتظر المؤمن فجرًا بعد ليل طويل.
وحين يهبط المطر أخيرًا، لا تسمع سوى نشيد الأرض وهي تتنفس. تتفتح شقوقها لتستقبل القطرات كما تستقبل الشفاهُ اليابسةُ قبلةَ الحياة. الماء ينهمر، فيصير كل جرحٍ نهرًا، وكل تشققٍ بسمة، وتتحول اليابسة إلى جسد خصب يعيد للعالم لونه ورائحته.
ومن رحمها تولد الحياة، فتتزاحم الجذور في عتمة الأعماق، وتزدهر الأرض من جديد كأنها بُعثت من الفناء، وبدأت تكتب قصيدتها الجديدة على أديمها المبعوث.
الأرض العطشى إذًا، هي مرآتنا نحن. نحن الذين نتشقق من الداخل حين نفتقد الحب، حين نحرم من الأمل، حين يعبر الغيم ولا يتوقف عندنا. لكنها أيضًا درسنا الأبدي: أن لا عطش يبقى عطشًا إلى الأبد، وأن كل شقّ ينتظر مطرًا، وكل جفاف يتلهف للحياة.
الكاتب
حميد عطاالله الجزائري.
23/8/2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق